كلمة الشيخ سيدي محمد العيد رضي الله عنه أمام المشاركين في الملتقى الدولي للإخوان التجانيين
الذي انعقد بالأغواط ـ الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، وعلى صحابته الغرّ المحجّلين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدّين.
سيدنا العارف بالله شيخ الطريقة التجانية سيدي الحاج أمحمّد نجل سيدي محمود التجاني وفقه الله.
حفدة وأنجال القطب المكتوم الشيخ سيدنا أحمد التجاني حفظهم الله.
معالي السيد وزير الشؤون الدينية والأوقاف المحترم.
السيد والي ولاية الأغواط.
السادة الحضور الأماجد.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركلته، وبعد:
فإنه لمن دواعي الشرف والاعتزاز أن نلتقي في هاته المناسبة الطيّبة وهي ( الملتقى الدولي للإخوان التجانيين )، وفي ربوع الشيخ سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه، وفي ضيافته، ونزيل الكرام ليس يضام، وأعظم ما نلمسه في تواجدنا هنا جميعا هو اللقاء، لقوله صلوات الله وسلامه عليه ( إن الإيمان ليبلى كما يبلى الثوب، ألا فجدّدوه باللقاء ) لأن كل لقاء ابتُغِيَ فيه وجه الله تعالى لا شك وأنه تعتريه نفحات روحية ربانية لا يسع المسلم إلاّ وأن يتعرّض لها، وعليه فإنّ محاضرتي ستكون بعون الله وتوفيقه تحت عنوان : ( شيوخ الطريقة التجانية رسل محبّة وسلام وإحسان ). روى الإمام مالك بن أنس في الموطّأ بإسناد صحيح، عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال : دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه فسألت عنه فقيل لي: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه فسلّمت عليه، ثم قلت والله إني لأحبك فقال : آلله فقلت : الله، فقال : آلله فقلت : الله، فأخذني بحبوة ردائي فجذبني إليه، فقال أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : ( وجبت محبّتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في ).
ذكرت هذا الحديث وبدأت به عنوة، لأن الشيخ سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه وخلفاءه من بعده بذلوا كل ما في وسعهم حتى جسّدوا محتوى هذا الحديث القدسي في حياتهم الروحية، والعملية التطبيقية، والاجتماعية، وأمَرَ الشيخ بذلك كل مريديه حتى صارت حياتهم والحمد لله كلها في الله وبالله وعن الله، بل قل صار هذا صبغة كل أتباع الطريقة التجانية في أغلب أصقاع العالم .
السادة الأفاضل، الضيوف الأكارم :
إن من أكبر ما تتميّز به هذه الطريقة هو أنّ كثرة المتمسّكين بها من أكابر العلماء والأدباء والعارفين في كل قطر وزمان، منذ أن أن أظهرها الله للوجود على يد الشيخ سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه، وهذه المزية تُعَدّ من أعظم الكرامات لسيدنا الشيخ فهي وراثة محمدية، كما تدل على صحة سندها وصفاء مشربها، وصدق العلاّمة الجليل سيدي إبراهيم الرياحي رضي الله عنه حينما قال من قصيدة طويلة الذيل:
وما ظنونك بالورد الذي نظمت يد النبوّة هل يبنى بلا ساس؟
وسرّها الذي بوّأها هذه المكانة هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّباعه قولا وعملا، أليس هو القائل صلوات الله وسلامه عليه فيما معناه: (والذي نفسي بيده لا يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين) فكان شعار الطريقة التجانية المحبة في الله وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه.
روى الإمام البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار ).
فعلى هذا المبدأ العظيم ربّى الشيخ أصحابه وأتباعه ليكونوا هداة يتحمّلون تبعات قيادة الخلق إلى الحقّ، فتربوا بهمم عالية صغـّرت في أعينهم مطالب الدنيا، فهمهم الأكبر ابتغاء الدار الآخرة وما يصلح شأنهم هناك، دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا. ونحن بحول الله سنركز في هاته العجالة على الجانب الدعوي لرجال الطريقة، كونهم رسل محبة وسلام وإحسان، انطلاقا من قول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (1)، وقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (2) وعلى ضوء هدي هاتين الآيتين الكريمتين توشّح رجال الطريقة التجانية ومشائخها سلاحهم الدعَوي والإصلاحي عبر كل رحلاتهم وزياراتهم داخل القطر الجزائري وخارجه عبر القارة الإفريقية السمراء، فكانوا بحقّ رسل محبة وسلام وإصلاح وإحسان، ويشهد بذلك الخاص والعامّ سواء من التجانيين أو غيرهم من رجال الطرق الصوفية، وعليه فنحن ملزمون الآن بذكر نماذج من رحلات وزيارات مشائخ الطريقة ورجالها، هاته الرحلات هي التي تبرز وتوضح جليّا ما قام به هؤلاء الخلص من نشرٍ للجانب الدعوي والإصلاحي المتسم الإحسان والسلام والمحبة والإخاء، فنبدأ بما يلي :
1. رحلة سيدي محمود نجل مولاي البشير التجاني إلى المغرب الشقيق إنه لما علم سيدي محمود التجاني بوجود خلافات كبيرة، ومنازعات وخصومات بين قبائل الأرياف بالمغرب الشقيق، كادت أن تتحوّل إلى حرب أهلية طاحنة، من أجل ذلك شدّ رحلته صحبة رفقاء طيبين، منهم السيد الحاج بن عمر الشكراني من مغنية، وذهب إلى تلك البقاع وبقي بها أكثر من نصف سنة يعِضُهم ويرشدهم ويصلح ذات بينهم حتى تصالحوا وتسامحوا، ولم يغادر سيدي محمود أهلها حتى أمسوا إخوة أشقاء طرحوا الخلافات جانبا، وجلسوا على سرر متقابلين، وكان ذلك في العشرينات من هذا القرن (3) .
2. رحلة سيدي بن عمر نجل سيدي محمد الكبير التجاني رضي الله عنهما
في سنة 1948 خرج سيدي بن عمر من عين ماضي في أربعة أنفار قاصدا إفريقيا لمواصلة نشر الإسلام بها وتجديده، وبقي هنالك مجاهدا باللسان والقلم مدة ثلاث سنوات زار خلالها أزيد من خمسة عشر دولة نذكر منها: ليبيريا، ساحل العاج، الطوغو، نيجيريا، الكامرون، الكونغو، تشاد، السودان، مصر …
لقد أبلى هو وصحبه البلاء الحسن في هذه الرحلة الطويلة الشاقّة، وقد اتصل بجنسيات متعددة وعقائد مختلفة، وألسن متباينة، وأفكار متباعدة. لقد تحمّل تلك المشاق بجلد وصبر وسعة خاطر، وخاطب أولئك الأقوام باللغة العربية مرة، ومرة كان يكلف من معه لترجمة ما يقوله إلى لغات البلد المضياف، يوضح في خطبه ما هو بصدده كفضل الإسلام ومزاياه، ويأمرهم بنبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، ولقد أسلم على يديه في هاته الرحلة المباركة حسب شهادة العدول الأوفياء مئات الآلاف ممن كانوا بديانات مختلفة.
ولم يستعمل رضي الله عنه في هاته الفتوحات الإسلامية المظفرة سلاحا جارحا وإنما استعمل سلاح المنطق والصبر وهما أمضى سلاح عند العقلاء وأنفذهما إلى القلوب. وجُـلّ الذين دخلوا الإسلام على يديه، اعتنقوا الطريقة التجانية وتربوا بها، وقد أعطى في هاته الرحلة ألف إجازة تجانيه للأكابر والأفاضل والأعيان الذين اتصل بهم رضي الله عنهم.
3. الصلح الذي قام به العلاّمة الكبير والمحدّث الشهير سيدي محمد الحافظ التجاني المصري
قام بالصلح – هذا الرجل الأحمدي التجاني – بين دولتين إفريقيتين هما مصر والسودان، وهو علاّمة زمانه، فلعب دورا كبيرا عندما اشتدّ الخلاف بين الدولتين وعجز رجال الحكم والحكمة عن تسوية الوضعية بينهما، وقد كاد الخلاف أن يتحوّل إلى شر مستطير، وعند ذلك سعى سيدي محمد الحافظ بما آتاه الله من حكمة ومعرفة، فأرضى الطرفين وأجرى الله الخير على يديه (4) .
4. رحلة سيدي أحمد سكيرج إلى الغرب الجزائري هي رحلة ذات شأن كبير ليس للمغاربة فقط لكن للجزائريين في المقام الأول، حيث أن القاضي الشاعر سيدي أحمد سكيرج زار الناحية الغربية كلها من البلاد الجزائرية، وكتب عمّا شاهده فيها، وعن الذين اتصل بهم من العلماء الجزائريين، ودوّن الأسئلة الفقهية التي طرحت عليه أثناء رحلته بخطّ يده وطبعت بفاس. فقد زار الشاعر المغربي وهران ومستغانم وتلمسان وسيدي بلعباس، وسمى هاته الرحلة: ” الرحلة الحبيبة الوهرانية الجامعة للطائف العرفانية “، وتقع في مئة وثمان وثلاثين صفحة، وجاءت هاته الرحلة بصدد نشر الفكر الصوفي ومنهج التربية الروحية وربط عرى المحبة والسلام بين الأشقاء من القطر المغاربي الكبير (5) .
5. رحلة أحد رجال الطريقة الكـُمّل إلى المدينة المنورة وهو الشيخ حمدان الونيسي
فهو يعتبر من أهم أكابر العلماء المصلحين، المستقلّين بالرأي والمتبصرين بالاستدلال العقلي، وعليه فإنّ مهاجره إلى المدينة المنورة ما كان إلاّ تعبيرا صريحا عن غضبه عن السياسة الاستعمارية بالجزائر، وعن عدم طاقته العيش بها تحت سياط الجلاّدين ونغمة الحاقدين، فاستفاد هناك وأفاد بدعوته إلى الله وقيامه بالتدريس والإفتاء إلى أن وافاه الأجل هناك (6) .
السادة الأفاضل، الحضور الأكارم :
لنقتصر هنا على ما ذكرنا من رحلات القوم التي هي بمثابة محطات روحية تحمل شعار السلام والمحبة والإصلاح والإحسان، واكتفينا بهذا القدر في هاته العجالة لعدم وجود المتسع من الوقت الكافي لذكر كل الزيارات والرحلات، وستجمعنا إن شاء الله تعالى بكم لقاءات أخرى في وطننا العزيز الجزائر أو في أقطار أشقّائنا المغاربة وإخواننا الأفارقة، لنسرح ونبحر في إثراء ما قام به الخلص الكمل من أصحاب الصفوة التجانية لنشر الإسلام والمحبة والإحسان، والمنهجية الفذّة في التربية الروحية للطريقة التجانية .
كلل الله مسعى الجميع بالنجاح والتوفيق والرشاد، والله تعالى نسأل أن يوفق القيادة العليا للبلاد، وأن يسدد خطاها وعلى رأسها فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي أتاح لنا فرصة اللقاء الأخوي، فندعوا الله أن يحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم وأن يبارك لنا في أيامه حتى يصل بهذا الوطن الكبير إلى ساحل النجاة وبرّ الأمان الأبدي، إنه تعالى وليّ ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .